فصل: (سورة آل عمران: الآيات 110- 111)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة آل عمران: الآيات 110- 111]

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله}.
كأن عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: {وَكانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} ومنه قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كأنه قيل: وجدتم خير أمّة، وقيل: كنتم في علم الله خير أمّة. وقيل: كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمّة، موصوفين به أُخْرِجَتْ أظهرت، وقوله: {تَأْمُرُونَ} كلام مستأنف بين به كونهم خير أمّة، كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم {وَتُؤْمِنُونَ بِالله} جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله، لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا)}والدليل عليه قوله تعالى وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ مع إيمانهم بالله {لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه، لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرئاسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} كعبد الله بن سلام وأصحابه {وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} المتمرّدون في الكفر {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} إلا ضررًا مقتصرًا على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك.
{وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ} منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم. وفيه تثبيت لمن أسلم منهم، لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهى بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به، مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل. فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله: {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}؟ قلت عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فأى فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت: لو جزم لكان نفى النصر مقيدًا بمقاتلتهم، كتولية الأدبار. وحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر. فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت: جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فما معنى التراخي في ثمَّ؟ قلت: التراخي في المرتبة لأنّ الأخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الأخبار بتوليتهم الأدبار. فإن قلت: ما موقع الجملتين أعنى {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} و{لَنْ يَضُرُّوكُمْ}؟ قلت: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإنّ من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاءا من غير عاطف.

.[سورة آل عمران: آية 112]

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بأنهمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)}.
{بِحَبْلٍ مِنَ الله} في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من الله وهو استثناء من أعم عام الأحوال. والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامّة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعنى ذمّة الله وذمّة المسلمين، أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ الله} استوجبوه {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، ثم قال: {ذلِكَ بِما عَصَوْا} أي ذلك كائن بسبب عصيانهم للَّه واعتدائهم لحدوده ليعلم أنّ الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط الله، وأنّ سخط الله يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر. ونحوه {مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا}، {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ}.

.[سورة آل عمران: الآيات 113- 116]

{لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ الله آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)}.
الضمير في لَيْسُوا لأهل الكتاب، أي ليس أهل الكتاب مستوين.
وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ} كلام مستأنف لبيان قوله: {لَيْسُوا سَواءً} كما وقع قوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بيانا لقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}، أمّة قائمة: مستقيمة عادلة، من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام، وهم الذين أسلموا منهم. وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود، لأنه أبين لما يفعلون وأدل على حسن صورة أمرهم. وقيل عنى صلاة العشاء، لأن أهل الكتاب لا يصلونها.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم، وقرأ هذه الآية. وقوله: {يَتْلُونَ} و{يُؤْمِنُونَ} في محل الرفع صفتأن لامّة، أي أمّة قائمة تالون مؤمنون، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين، ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمأن لاشراكهم به عزيرًا، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض. ومن الإيمان باليوم الآخر، لأنهم يصفونه بخلاف صفته. ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها. والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي وَأُولئِكَ الموصوفون بما وصفوا به مِنَ جملة {الصَّالِحِينَ} الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم. ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} لما جاء وصف الله عز وعلا بالشكر في قوله: {وَالله شَكُورٌ حَلِيمٌ} في معنى توفيه الثواب نفى عنه نقيض ذلك. فإن قلت: لم عدى إلى مفعولين. وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد، تقول شكر النعمة وكفرها؟ قلت: ضمن معنى الحرمان، فكأنه قيل: فلن تحرموه بمعنى فلن تحرموا جزاءه. وقرئ يفعلوا، ويكفروه، بالياء والتاء {وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} بشارة للمتقين بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.

.[سورة آل عمران: آية 117]

{مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ الله وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}.
الصرُّ: الريح الباردة نحو: الصرصر. قال:
لَا تَعْدِلَنَّ أَتَاوِيِّينَ تَضْرِبُهُمْ ** نَكْبَاءَ صِرً بِأصْحَابِ الْمَحَلَّاتِ

كما قالت ليلى الأخيلية:
وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلَإِ الْـ ** ـجِفَانَ سَدِيفًا يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ

فإن قلت: فما معنى قوله مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ؟ قلت: فيه أوجه: أحدهما أنّ الصرٌّ في صفة الريح بمعنى الباردة، فوصف بها القرّة بمعنى فيها قرة صرّ، كما تقول: برد بارد على المبالغة. والثاني: أن يكون الصر مصدرًا في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله. والثالث: أن يكون من قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ومن قولك: إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل. قال:
وَفِى الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِى

شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما. وقيل: هو ما كانوا يتقربون به إلى الله مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضاع عنهم، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله. وشبه بحرث وما ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم، لأنّ الهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ. فإن قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح.
قلت: هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا} ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ: تنفقون، بالتاء ما ظَلَمَهُمُ الله.
الضمير للمنفقين على معنى: وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، أى: وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ {ولكن} بالتشديد، بمعنى ولكنّ أنفسهم يظلمونها هم. ولا يجوز أن يراد: ولكن أنفسهم يظلمون، على إسقاط ضمير الشأن، لأنه إنما يجوز في الشعر.

.[سورة آل عمران: الآيات 118- 119]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)}.
بطانة الرجل وولجيته: خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بشقوره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما يقال: فلان شعاري.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «الأنصار شعار والناس دثار» مِنْ دُونِكُمْ من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون. ويجوز تعلقه بلا تتخذوا، وببطانة على الوصف، أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يقال: ألا في الأمر يألو، إذا قصر فيه، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين.
والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه. والخبال: الفساد وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ودّوا عنتكم، على أنّ «ما» مصدرية. والعنت: شدّة الضرر والمشقة. وأصله انهياض العظم بعد جبره، أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين.
وعن قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضا على ذلك.
وفي قراءة عبد الله قد بدأ البغضاء قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما بين لكم فعملتم به. فإن قلت: كيف موقع هذه الجمل؟ قلت يجوز أن يكون لا يَأْلُونَكُمْ صفة للبطانة وكذلك قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم. وأما قَدْ بَيَّنَّا فكلام مبتدأ، وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة ها للتنبيه. وأَنْتُمْ مبتدأ. وأُولاءِ خبره. أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب. وقوله تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء. وقيل أُولاءِ موصول {تُحِبُّونَهُمْ} صلته. والواو في وَتُؤْمِنُونَ للحال، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم. فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم. وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. ونحوه {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله ما لا يَرْجُونَ} ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام. قال الحرث بن ظالم المري:
فَأقْتُلُ أقْوَامًا لِئَامًا أَذِلَّةً ** يَعُضُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُؤُسَ الْأبَاهِمِ

قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوّة الإسلام وعز أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء، وما يكون منهم في حال خلوّ بعضهم ببعض، وهو كلام داخل في جملة المقول أو خارج منها. فإن قلت: فكيف معناه على الوجهين؟ قلت: إذا كان داخلا في جملة المقول فمعناه: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا، وقل لهم إنّ الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أنّ شيئا من أسراركم يخفى عليه. وإذا كان خارجا فمعناه: قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعى إياك على ما يسرون فإنى أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم. ويجوز أن لا يكون ثمَّ قول، وأن يكون قوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} أمرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظًا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك.

.[سورة آل عمران: آية 120]

{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}.
الحسنة: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع. والسيئة: ما كان ضدّ ذلك.
وهذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدّة. فإن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ قلت: المس مستعار لمعنى الإصابة فكان المعنى واحدًا. ألا ترى إلى قوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ}، {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، {إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}. وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم وَتَتَّقُوا ما نهيتم عنه من موالاتهم. أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتنقوا الله في اجتنابكم محارمه كنتم في كنف الله فلا يضركم كيدهم. وقرئ {لا يَضُرُّكُمْ} من ضاره يضيره. ويضركم على أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد، كقولك مدّ يا هذا.
وروى المفضل عن عاصم {لا يَضُرُّكُمْ} بفتح الراء، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى. وقد قال الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك إِنَّ الله بِما يَعْمَلُونَ من الصبر والتقوى وغيرهما مُحِيطٌ ففاعل بكم ما أنتم أهله. وقرئ بالياء بمعنى أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه.